
((القصيدة على البحر البسيط))
الطوفان
ناديتُه وخيوطُ الصَّوتِ ترتفعُ
هل في السَّفينةِ -يا مولاي- متَّسعُ
..
ناديتُهم كلَّهم: هل في سفينتكم
كأنَّهم سمعوا صوتي وما سمعوا
..
ورحتُ أسأله يا شيخ قسمة من
نجوتَ وحدك والباقون قد وقعوا
..
وهل سترتاحُ؟ هل في العمر طعم ندىً؟
وأنت وحدك والصحراء تجتمعُ
..
وكيف تبدأ هذا الكون ثانيةً
وقد تركتَ الفتى والموج يصطرعُ؟
..
أنا صغيرُكَ أقنعني وخُذْ بيدي
أم أنتَ بالموتِ والطُّوفان مُقتنِعُ
..
الماء يأكل أحداقي وتبصرني
كيف استرحتُ وعيني ملؤها هلعُ!
..
وهل ستذكرُ قبل الموت كيف دنا؟
عيني تضيق وعينُ الموت تتَّسعُ
..
وهل تنام وفي عينيكَ نابتةٌ
عيون طفلِك والألعابُ والمتعُ؟
..
أم سوف تنساه مزروعًا بخاصرةِ
الطُّوفان يركلُهُ الطُّوفانُ والفزعُ؟
..
يا شيخَ ذاكرتِي الأولى ويا أبتي
ويا الَّذي ضاق بي تقواه والورَعُ
..
أكتافُكَ السُّمر يا ما قد غفوتُ بها
وصدرُك الفَرَحُ المَنسيُّ والوجَعُ
..
كلُّ التَّفاصيل مرَّت في مخيِّلتي
البيتُ والأهلُ والأشجارُ تجتمعُ
..
صدى غراماتي الأولى وأسئلتي
والقبلةُ البِكرُ والأسرارُ والخُدَعُ
..
مرَّتْ سريعًا عليَّ النَّاسُ والتصقوا
في دمعتي وعلانا الموجُ فانشلعوا
..
كلُّ الحكايات -يا مولاي- تبصرها
وتزدريها؛ لهذا حزننا جَشِعُ
..
أنتَ الـ ذَهَبْتَ بعيدًا عن مواسمِنا
لتصنع الكونَ لا خوفٌ ولا طَمَعُ
..
ماذا صنعتَ وهذي النَّاس ثانيةً
من كلِّ ليلٍ إلى سوءَاتهم رجعوا
..
صاغوا ملامحَ موتٍ لا يليقُ بنا
وحزمةً من منافٍ فوقَنا وضَعُوا
..
وأورَثوا كلَّ شيبِ الأرضِ في دمِنا
متنا كثيرًا وقالوا: موتُكم جُرَعُ
لأجل من أنتَ -يا مولاي- ترفضني
لأجلهم أكلوا الدُّنيا وما شبعوا
..
وها همُ زرعوا الأنهار خيطَ دمٍ
وكم حصدناه في صمتٍ وكم زرعوا!
..
ماذا صنعتَ إذًا؟ مولاي معذرةً
كُلِّي سؤالٌ وشكِّي كلُّه بُقَعُ
..
هل اقتنعتَ بهذا الكون يا أبتي
أم نهرُ حزنٍ لهذا الشيبِ يرتفعُ؟
..
يا كم بكيتُ عليكَ الآن يا أبتي
فقد غرقْتَ كثيرًا عندما طلعوا
..
إنِّي لأُبصرُ في عينيكَ يا أبتي
أشجارَ خوفٍ بلا خوفٍ ستُقتلعُ
..
وقد رأيتك ندمانًا ومُنكسرًا
وفوق حزنِكَ ينمو سُكَّرٌ وَرِعُ
..
نحتاجُكَ الآنَ للطُّوفان ثانيةً
فرُبَّما نصفُ طُوفانٍ وننتفعُ
..
فاصنعْ سفينتكَ الأُخرى وخُذْ بيدي
فإنّني الآنَ بالطُّوفان مُقتنِعُ
..
عارف السَّاعدي